العرب اليوم – رسمي محاسنة
مـأزق الاسير المناضل الذي اصبح اسطورة .

 

يخلق الوجدان الشعبي احيانا لرموزه صورة، تكون قريبة لشكل القداسة، خاصة اذا كانت هناك قضية بحاجة الى ابقائها في حالة من التوهج، وهذه الصورة التي تحولت الى صورة نمطية، تكون لاشخاص ضحّوا، وقدموا اغلى ماعندهم في خدمة القضية، ويتمادى الوجدان الشعبي في تضخيم الصورة، والتمادي في رصد التفاصبل، الى الدرجة التي تصبح فيها الشخصية مثقلة بالتزامات على حساب حاجاتها الطبيعية، الى الدرحة التي تجد نفسها فيها منزوعة من انسانيتها المحكومة بالخطأ والصواب، مثلها مثل بقية الناس في تعاملهم مع الحياة.

“الاسير” هو النموذج الاكثر تعرضا لضغوطات من جهات متعددة، ومتباينة، بعضها يقوم بذلك من موقع الانتقام وتحطيم الشخصية، والبعض الآخر من منطلق المحبة والاجلال والتقدير لتضحية الاسير.
فيلم “خارج الاسوار” للمخرج الاردني “احمد الرمحي” يتناول هذه المسألة، بوعي ومهنية عالية، بعيدا عن الشعارات التي استهلكت تماما، او الصراخ والشعارات، انما يتناول موضوع “الاسير العربي” من خلال نماذج فلسطينية واردنية وسورية ولبنانية، نماذج وقعت في الاسر اما بعمليات او استطلاع في فلسطين ووقعت تحت اسر الجلاد الصهيوني، وامضت سنوات طويلة في المعتقل، بعضهم دخل وهو في سن الثامنة عشرة ليقضي مثلها داخل المعتقل، وعندما يخرج يكتشف ان هناك مسافة بينه وبين الحياة هي بعمر سنوات الاسر.


من هنا يلتقط المخرج “الرمحي” خيط الحكاية ليقدم شيئا مختلفا،عن كل ما تم استهلاكه حول القضية الفلسطينية، ويزيد على ذلك بتضمين الفيلم مشاهد رسوم متحركة “انيميشن”- وهي بحدود علمي اول مرة يتم استخدامها في فيلم وثائقي عربي-. وهو بفيلمه يغادر اسوار المعتقل، ليدخل الى مكون جديد ناتج عن سنوات من العزلة، وايقاع مختلف لحياة مختلفة ، يأخذنا الى لحظات التقاء الاسرى المحررين مع حياة تم تغييبهم عنها، حياة استمرت في تطورها وتحولاتها، ومتغيرات في السلوك والقيم، وفي ادوات العيش التي تم اختراعها خارج المعتقل، بينما حياتهم توقفت منذ اللحظة التي دخلوا فيها المعتقل، حيث الصورة المختزنة في العقل و الوجدان بقيت على حالها، لم يصبها أي تغيير او تطور،لان الاسير في عزلته لم يشتبك مع الحياة خارج السجن، ولم يتم تطوير المهارات والمعرفة بتفاصيل التغيير، ولم تتجدد الرؤية البصرية في عينيه وذاكرته بما تمت اضافته للحياة في الواقع، باستثناء الوعي السياسي، وصلابة الموقف، وما اكتسبوه من معرفة ولغات، وبناء الشخصية القادرة على مواجهة الجلاد. اما فيما يتعلق بتطورات الحياة وتقنياتها، وتطور المفاهيم السلوكية والانسانية، وما استجد من تطورات وتغيرات سياسية، فإن هذا كان يشكل مأزقا للاسير الخارج من ضيق الزنزانة الى فضاءات الحياة. هذه الفضاءات التي تصبح في لحظة ما، او موقف ما مثل سجن جديد بالنسبة للاسير، الذي توقفت حياته وذاكرته وتجاربه منذ ان تم اعتقاله. وتصبح معاناته مزدوجة لانه يدرك تلك النظرة اليه كانسان استثنائي غير مسموح له ان يخدش النظرة المثالية التي صنعها الوجدان الشعبي، لذلك فهو يعيش ازمة اغترابه عن فضاء الحياة الجديد، وازمة هذه النظرة المثالية له التي تكاد ان تنزع عنه وجهه الانساني.

احمد ابو السكر وصالح ابولبن وتحسين الحلبي وانور ياسين ومحمود مشلاوي والسيدة تيريز هلسه، اسرى تم تحريرهم بعد سنوات من السجن تراوحت ما بين 10 أعوام و27 عاما في مراحل مختلفة من سنوات النضال ضد الاحتلال الصهيوني، ويبرع المخرج وهو يستخدم في مشاهد الفيلم الاولى الرسوم المتحركة في مشهد ساعة بطيئة معلق بها حبل ملفوف على رقبة الاسير، مشهد في غاية الذكاء يضع المتلقي في اجواء السجن الذي يحتاج الى شخصية استثنائية قادرة على مواجهة الذات وطرح الاسئلة التي لها علاقة في مقاومة ظروف وشروط ادارة السجن، وايضا مقاومة ملل الايام والليالي التي تشبه بعضها بعضا في روتين قاتل وطويل.

يتحدث الاسرى عن ظروف اعتقال تتشابه الى حد كبير، خاصة ان سبب اعتقال الاسرى متشابهة، لها علاقة بعمليات ضد الكيان الصهيوني، وبالتالي فإن التعامل مع هذه الشريحة هي الاكثر قسوة وعنفا والاكثر رغبة عند ادارة السجون بتحطيم نفسياتهم ودفعهم للهذيان والجنون.

لكن هؤلاء الاسرى دخلوا السجن وهم يحملون روح الشباب المبكر، والقناعات الراسخة، والارادة القوية، والنقاء الذي لم يكن قد تلوث بعد بالسياسات المخادعة. فلا شيء لديهم ليخسروه، فهم مشاريع شهداء، لذلك استطاعوا ان ينتزعوا من السجان امتيازات لها علاقة بحياتهم اليومية في المعتقل، وكان لديهم الوعي بالتعامل مع خبث السجان، فعندما تحقق لهم مطلب وجود مكتبة في المعتقل، قامت ادارة السجن بتزويد المكتبة بكتب كان يمكن ان تترك جدلا وخلافا حادا، عندما زودتهم بكتب الشيخ”سيد قطب” وكتب الماركسية،أي من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، لكن الاسرى تعاملوا مع الموضوع من باب المعرفة دون الوصول الى نقطة التصادم.

فيلم “خارج الاسوار” بوح عن مشاعر انسانية داخلية، ربما كانوا بحاجة الى هذه اللحظة حتى يتم تجسير الفجوة بينهم وبين المجتمع الجديد عليهم. لذلك يجب تفهم هذه الدهشة في عيونهم وهم يشاهدون تقنيات جديدة لم تكن معروفة لحظة دخولهم السجن، مثل اجهزة الفيديو والريموت كنترول، والابواب الكهربائية، ذلك ان طاقاتهم الاستيعابية المغيبة سنوات طويلة كانت بحاجة الى بعض الوقت حتى تتفهم هذه التقنيات التي اصبحت متداولة في حياة الناس العاديين.

تقول”تيريزا “نحن بشر”، لتختزل بذلك حكاية معقدة، وتلغي المسافة ما بين الاسطورة والواقع، ذلك انها تريد من الناس ان يزيحوا هالة الاسطورة عن الاسرى حتى يتمكن الطرفان من الرؤية بشكل سليم، وان يتفهم الناس هذه الصورة المحدودة والغامضة التي يختزنها الاسير في ذاكرته وتجربته عن المرأة مثلا، فهم دخلوا للسجن صغارا دون تجربة مع الزواج، او علاقة مع المرأة، وهذه السنين الغت امكانية التعامل مع المرأة، او تلمس انوثتها، او الاحساس الذكوري بهذه الانثى، فالمشاعر توقفت منذ زمن طويل، وغابت الظروف الطبيعية لنمو هذه المشاعر، الى الدرجة التي اصبحت فيها المرأة شيئا ثانويا خارج مفردات الاسير.

وكون الاسير عاش في محيط مغلق، ولم يكن بحاجة الى النقود في تعامله اليومي، لذلك فان النقود فقدت اهميتها كقيمة مضافة، واصبحت بلا قيمة بالنسبة للاسير، لذلك فان هؤلاء الاسرى يتعاملون مع النقود دون اهتمام، فهي ليست وسيلة تبادل او متعة بالنسبة لهم، لذلك فانهم يصرفونها بتهور وبدون احساس بقيمتها.

وفي احد جوانب الفيلم ومن خلال بوح الاسرى فإنهم يبدون مثل المرايا لنا نحن في الخارج، فقد تعودوا على حالة من الصراحة والصدق داخل المعتقل، ذلك انه لا مجال للكذب او المجاملة، لان الامور مكشوفة امام مجتمع الاسرى الضيق، فتكرست قيمة الصدق في تعاملهم اليومي. وعندما خرجوا فان فراستهم اكتشفت كما هائلا من الاقنعة التي يضعها الناس على وجوههم، وصدمهم هذا النفاق والمجاملة السائدة في تعاملات الناس اليومية، الامر الذي اضاف لهم ازمة جديدة في التعامل مع وجوه زائفة واقنعة هي مكشوفة لهم سلفا.

فيلم “خارج الاسوار” الذي يقدم ابطاله وحكاياهم بسلاسة، وعفوية يمثل بانوراما تطوف داخل النفس البشرية وخارجها ،عن تلك الاحلام والكوابيس،عن الالوان والاحساس بها، عن الحلم بفضاءات الحرية بلا حدود، عن التحدي والارادة والصلابة، عن الذاكرة التي توقفت عند الاهل والاصدقاء، عن الصورة الاخيرة قبل اغماضة العين على المعتقل،عن الاحساس بلحظة الافراج كمناضل وانسان، بعد ان عاش سنوات تحت اسم “مخرب”، او مجرد رقم، عن تجربة السجن بمرارتها، وماحملوه معهم من عمق سياسي، ولغات وقدرة على قراءة العقول وتحليل الشخصيات، عن السجين الذي تحول الى شخصية عامة تسلط عليها الاضواء، والتعامل معه على اعتبار انه ممنوع من الخطأ.

ويفرد الفيلم مساحة اكثر للمناضل اللبناني”انور ياسين” الاعلامي الذي اعتقل وعمره”18″عاما قضى مثلها في السجن، والذي خرج ليعمل مراسلا لمحطة تلفزيونية لبنانية، ويستمر في نفس طريق المقاومة من موقع الاعلام، يعرض ما خلفته آلة الحرب الصهيونية من دمار نتيجة قصفها للمناطق اللبنانية خاصة الضاحية الجنوبية، هذا التحدي الذي يبرز الوجه البشع للعدو الصهيوني.

لم يقترب “الرمحي” كثيرا من السياسة، لكنه طرح سؤالا مشروعا على الاسرى، فيما اذا كانوا نادمين، فكان الرد من مناضل قضى”27″ عاما في السجن بعد عملية قتل فيها”7″صهاينة، هو “احمد ابو السكر” الذي قال على خلفية مشاهد اتفاقية اوسلو” لقد فرطوا بفلسطين، فلسطين لن تعود الا بالمقاومة”.وهذا حق لمناضل قدم الكثير لقضيته، ورغم ثلاثة عقود من الاسر لم تنل من صلابته،وجاءت خاتمة الفيلم بقصيدة لـــ”مظفر النواب” فيها الرفض، والاحتجاج، يقول فيها “الليل مع الجيش المهزوم طويل.. طويل”.

الفيلم اضافة مهمة لقضية تم تناولها حد الاستهلاك، لكن “الرمحي” هنا ينجو من التكرار والتقليد، واجترار شعارات، ويقدم فيلما يحمل مضامين انسانية فيها رسائل باتجاهات متعددة، ويبدع بتوظيف الرسوم المتحركة التي كانت تعطي دلالات جمالية ومعرفية تساهم في تعميق فكرة الفيلم، وفي الوقت نفسه تكسر الملل الذي يمكن ان يتسرب للمتلقي في مثل هذه الافلام التي تتكرر فيها مقابلة نفس الاشخاص نفسهم.

 

مدرج الهيئة الأردنية للأفلام - جبل عمان

ولكن ربما لي ملاحظة، وهي انه ضمن دلالات السينما فان الكاميرا المثبتة من اعلى تعطي دلالة للمتلقي باستصغار الشخصية وتقليل قيمتها، وهذا من المؤكد لم يقصده المخرج اطلاقا، الى جانب ان التصوير جاء وكأنه نوع من التحقيق، رغم ان ما شاهدناه فعلا هو بوح انساني لشخصيات مناضلة، آمنت بقضيتها، ودفعت الثمن بقناعة مطلقة، وتريد ان تعيش ما ابقته سنوات الاسر حياة عادية بعيدا عن القداسة والاسطورة.

http://alarabalyawm.net/Public_News/NewsDetails.aspx?NewsID=10648&Lang=1&Site_ID=2

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *